النظام السلطوي يجمع بين تفتيت العظام وكسر الأقلام على التراب الجزائري

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

سلط الدكتور عبد الله بوصوف، الباحث في العلوم الإنسانية، الضوء على التحولات التي يعيشها النظام العسكري الجزائري، من خلال استعراض تاريخه مع القمع والالتفاف على المطالب الشعبية، من العشرية السوداء إلى قمع الحراك الشعبي، إذ لم يتردد في استخدام السجون والترهيب كأداة لإخماد الأصوات المطالبة بالديمقراطية والحرية، لافتا إلى أن “السياسة ذاتها تستمر اليوم في معركة جديدة تستهدف الإعلاميين والكتّاب الذين يخرجون عن الخط التحريري الرسمي، ليصبح كسر الأقلام امتدادا لمعركة كسر العظام”.

وأكد بوصوف، في مقال توصلت به هسبريس معنون بـ “النظام الجزائري من معركة كسر العظام إلى معركة كسر الأقلام”، أن النظام الجزائري يعتمد على عقيدة سياسية تعزل الشعب عن موارده الحقيقية، بتوجيه ثروات البلاد نحو ملفات خارجية تخدم مصالح ضيقة، بينما يعاني المواطن البسيط من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، مشيرا إلى أن “هذا الانفصال يتجلى بين النظام والشعب في مسرحيات انتخابية مفرغة، وآلة إعلامية هدفها تبرير التبذير والسياسات القمعية”، وموضحا أن “هذه السياسات أحرجت النظام داخليا وخارجيا، إذ بات مكشوفا أمام تقارير المنظمات الحقوقية الدولية”.

وشدد الباحث في العلوم الإنسانية على استهداف النظام شخصيات بارزة، كالكاتبين “بوعلام صنصال” و”كمال داود”، مؤكدا أن “الأقلام الجريئة أصبحت تشكل تهديدا لشرعية النظام”، ومبرزا أن “هذا التصعيد يعكس تخوفا من تحولات داخلية قد تدفع نحو قول الحقيقة حول قضايا حساسة، أبرزها ملف الصحراء المغربية؛ لذلك بات النظام الجزائري يعيش اليوم تحت ضغط متزايد، ليكون أقرب إلى نظام فاقد للمصداقية، يعاني من عزلة سياسية ودبلوماسية أمام العالم”.

نص المقال:

أصبح النظام العسكري الجزائري يقفز من مصيبة فيسقط في فضيحة… فهو لا يقبل عنه بديلا حضاريا وديمقراطيا، إذ تعود الانقلاب على صناديق الاقتراع كما حدث قبل العشرية السوداء وقتل آلالف الأبرياء ومثلهم من مجهولي المصير… وبالتغول نفسه والغطرسة نفسها ومنطق فرض الأمر الواقع سيواجه الحراك الشعبي المبارك الذي قطع الطريق على عبد العزيز بوتفليقة، فقامت الأفعى (النظام العسكري ) بتغيير جلدها لا عاداتها وأسلوبها في القتل بالسم… وهكذا تم الزج بآلاف الشباب الغاضبين في السجون ودفع أعداد أخرى للهجرة غير الشرعية.

فمطالب الشارع الجزائري كانت واضحة منذ الانقلاب على الثورة في يوليوز 1962، لكن النظام العسكري تعود الالتفاف على تلك المطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحقوقية المشروعة، ونسج لنفسه عقيدة جديدة وبروباغاندا للتخدير الجماعي، مفادها أن صرف مقدرات الشعب الجزائري على ملفات بعيدة عن معاشه وخبزه وحليبه ولحمه واجب وطني في سبيل تمويل مجموعات إرهابية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. كما كانت غاية الآلة الإعلامية الجزائري هي تدجين المواطن الجزائري الذي يجب أن يرى كل تبذير لثروات الجزائر تدبيرا حكيما من طرف النظام الحاكم.

استمرت آلة النظام العسكري في معركة كسر عظام قادة ومنظمات الحراك الشعبي والمعارضين السياسيين والحزبيين والنقابيين، ورمت بهم في السجون والحبس الاحتياطي، مع إثقالهم بغرامات كبيرة وإغلاق مقرات إعلامية. وأصبح المشهد السياسي والعمليات الانتخابية مجرد مسرحية هجرها الناخب الجزائري.

ولعل الإخراج الرديء للرئاسيات الأخيرة هو أكبر إحراج سياسي وإعلامي منذ انقلاب بومدين على الرئيس بنبلة.

عمليات كسر العظام ستتواصل مع رجال الإعلام “المزعجين”، إذ سيواصل رجال النظام الجزائري بطشهم بصناع الإعلام غير الرسمي وكل الخارجين عن الخط التحريري للمخابرات الجزائرية، كعمر فرحات وسفيان غيروس وإحسان القاضي وغيرهم كثير… صحيح أن النظام ذاته كان يضطر لإطلاق سراح معتقلين، خاصة قادة الحراك الشعبي وإعلاميين، لكنه جاء مرة في إطار “تكتيك المهادنة” بعد انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون (سنتي 2019 و2024)، حيث أطلق حوالي 4000 معتقل من بينهم صحافيون، ومرة أخرى تحت ضغط المنظمات الحقوقية الدولية، بعد حملات وتقارير حقوقية وإعلامية فاضحة لعورة نظام “دموي” يستشيط غضبا من الرأي الآخر أو الرأي المخالف. بدليل أنه لا حديث اليوم إلا عن معركة كسر الأقلام الجريئة التي تصدح بقول الحقيقة التاريخية أمام الجميع وفوق أرض الجزائر ذاتها؛ فالكاتب الفرنسي ذو الأصل الجزائري “بوعلام صنصال” (75 سنة) تم اعتقاله يوم 16 نوفمبر من مطار الجزائر قادما من فرنسا، على خلفية تصريحات تخص التاريخ الفرنسي في الجزائر ومرحلة الاستعمار وتسليم أراض مغربية للجزائر / الفرنسية، وخاصة الصحراء الشرقية، والتأكيد على مغربية الصحراء.

فصاحب Le Serment des barbares سنة 1999 والحاصل على جوائز أدبية مميزة لم يغير رأيه عن طبيعة وتاريخ النظام الجزائري، ولم يغادر إلى فرنسا، بل فضل البقاء في مدينة بومرداس؛ رغم المضايقات والرقابة والعيون اللصيقة للأجهزة الجزائرية التي ستواصل معركة كسر قلم صنصال بمنع كتابه Poste restante, Alger من المشاركة في المعرض الدولي للكتاب بالجزائر لسنة 2006، وهو الكتاب الذي تضمن قراءة نقدية للحالة السياسية للنظام العسكري.

ليس هذا فحسب، فالنظام العسكري يحاول استفزاز فرنسا بعد موقفها الصريح والتاريخي بمغربية الصحراء، وبعد زيارة الدولة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والتوقيع على جيل جديد من الاتفاقيات الاستراتيجية المهمة، من خلال التحرش واعتقال كل المفكرين والكتاب الجزائريين المستقرين بفرنسا أو الذين يكتبون يالفرنسية.

فالكاتب والقاص “بوعلام صنصال” يحمل الجنسية الفرنسية وكتاباته بالفرنسية؛ واعترافه بمغربية الصحراء من داخل الجزائر هو فقط الشرارة الأولى التي بإمكانها تشجيع كل الأقلام الجريئة من داخل البلاد على قول الحقيقة التاريخية حول الصحراء المغربية… لذلك سارعت أجهزة مطار الجزائر إلى اعتقاله في مكان مجهول إلى حد الآن.

تحرش النظام الجزائري بالأقلام سيطال أيضا الكاتب واللاجئ الجزائري بفرنسا “كمال داود”، البالغ 54 سنة، والفائز بجائزة “الغونكور” الفرنسية الشهيرة لسنة 2024 عن قصته Houris. فقد هرع النظام باسم مواطنة تدعى “سعدة عربان” (31 سنة) لرفع دعوى قضائية ضد “كمال داود” بتهمة السرقة الأدبية، بتوظيفه قصتها الشخصية في زمن الحرب الأهلية، حيث فقدت النطق بعد قيام الإسلاميين بقطع أحبالها الصوتية بعد محاولة ذبحها، ونجاتها من الموت بأعجوبة.

هنا أيضا يحاول النظام الجزائري كسر قلم “كمال داود” من جهة، والتلويح بالذكريات الأليمة للحرب الأهلية، وبأنه أنقذ الجزائريين من الإسلاميين بعد فوزهم في الانتخابات (سياسة الخوف)؛ وكأنه يعيد التأكيد على خطوطه الحمراء، أي قضية الصحراء المغربية والديمقراطية وتداول السلط.

فالهزائم المتتالية للنظام العسكري، سواء على المستوى السياسي أو الدبلوماسي، رفعت من درجة حساسيته، وجعلت من بث الأرقام الهزلية لنتائج الرئاسيات أولا، وبث مباشر لصور الرئيس تبون وأحد موظفيه ثانيا، أسبابا عجلت بإقالة المدير العام للتلفزيون العمومي الجزائري “محمد النذير بوقابس” في غشت الماضي، الذي عُين بدوره بعد إقالة مماثلة للمدير العام للتلفزيون “شعبان لونكال”، بعد بثه خبر فوز المغرب على البرتغال وتأهله إلى دور الربع لمونديال قطر 2022.

لقد اعتقد النظام العسكري أنه بهذه الاعتقالات والتهم المفبركة وأعمال الرقابة على كل الفاعلين السياسيين والإعلاميين والحقوقيين سيحد من تأثيرهم داخل الجزائر أو خارجها، في حين يكون وضع نفسه أمام كشافات المنظمات الحقوقية وتقارير المؤسسات الإعلامية وأمام ضمير المجتمع الدولي…وأقل وصف ينطبق على النظام العسكري في الجزائر هذه الأثناء هو أنه تحت سيف ديموقليس.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق