السويني يُشَرح العقل الرسمي المغربي واستراتيجية "اللعب مع الكبار"

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

قال المنتصر السويني، باحث في العلوم السياسية والمالية العامة، إن العقل الرسمي المغربي خلال فترة الأزمات الدولية المضطربة، مثل الحرب الأوكرانية وسياق الأزمات الإقليمية، أثبت اشتغاله المستمر وهندسته لاستراتيجية تنموية تركز على الأهداف الكبرى، مشيرا إلى أن “الأوطان تنهزم بغياب الأفكار الصلبة والعقل اليقظ”.

وأبرز السويني، في مقال له بعنوان “العقل الرسمي المغربي واستراتيجية اللعب مع الكبار”، أن المغرب اعتمد خريطة استراتيجية عالمية تهدف إلى تعزيز موقعه الدولي عبر استثمار موقعه الجغرافي وتفعيل مشاريع البنية التحتية الكبرى، موضحا أهمية الرؤية الاستراتيجية في ربط الأهداف بالوسائل لتحقيق تنمية مستدامة.

وتناول المقال موضوعات متسلسلة تتضمن علاقة العقل الرسمي المغربي في عهد الملك محمد السادس بتعزيز الرأسمال الاستراتيجي والدبلوماسي، والهندسيات الكبرى، والطرق التدبيرية الحديثة، ورسائل التعديل الحكومي، ودور مغاربة الخارج في استراتيجية التنمية الوطنية.

نص المقال:

قال الاقتصادي جون ماينارد كينز إن الصعوبة لا تتمثل في عدم فهم الأفكار الجديدة؛ بل الصعوبة هي عدم القدرة على التخلص من الأفكار القديمة.

في ظل وضع دولي جد متوتر (الحرب الأوكرانية- لبنان- غزة- سوريا-المحيط الإقليمي للمغرب)، وظرفية دولية صعبة، تحتاج الدول إلى الحضور القوي لعقلها الرسمي وعقلها الاستراتيجي، الحضور القوي يترسخ من خلال ما سبق أن أكد عليه التاريخاني الفرنسي مارك بلوك “الأوطان لا تنهزم في الميدان العسكري؛ بل الأوطان تنهزم من خلال غياب الأفكار الصلبة والعقل اليقظ”.

العقل الرسمي المغربي كان مقتنعا بأن مرحلة الأزمات تستدعي حضور العقل والفكر والعمل (خصوصا بالنسبة للمستوى الماكرو سياسي والماكرو اقتصادي).

وفي هذا السياق، تمت ملاحظة الأجندة المزدحمة للعقل الرسمي المغربي على مستوى اجتماعات المجلس الوزاري في المدة الأخيرة؛ وبالتالي كان العقل الرسمي يثبت أنه عقل في حالة اشتغال وفي حالة حركة.. بل وأكثر من ذلك، كان العقل الرسمي يثبت أنه عقل حسم في مسألة الأهداف والعناوين الكبرى والهندسيات الاستراتيجية للبلد، وأنه مستمر في سياسة الجهاد التنموي واستراتيجية النيو ديل على الطريقة المغربية.

1ـ العقل الرسمي المغربي وتعزيز قوة الرأسمال الاستراتيجي والدبلوماسي داخل بنية السلطة

العقل الرسمي المغربي كان مقتنعا بأن الدخول في شاشة الرادار الخاص بالقرن الحادي والعشرين يتطلب العمل على توفير وسائل القوة على المستويين الاستراتيجي والدبلوماسي؛ وهو ما يتطلب العمل على تعزيز نوع معين من الرأسمال داخل بنية السلطة (السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو).

والمتتبع للشأن المغربي سيلاحظ أن العقل الرسمي المغربي يركز الآن على تعزيز أسهم العقل الاستراتيجي والدبلوماسي داخل بنية السلطة (دون أن ننسى أن العقل الرسمي المغربي يعرف أن السياسة تتطلب تعزيز أسهم الرأسمال الاستراتيجي والدبلوماسي، وكذلك أسهم العقل المالي والاقتصادي داخل بنية السلطة، مع القيام بذكاء بالتناوب بينهم فيما يتعلق بمن يقوم بدور القاطرة).

العقل الرسمي المغربي كان يعرف أن الموقع الاستراتيجي للمغرب يفرض عليه إتقان اللعب في المربع الدولي؛ وبالتالي ضرورة فتح نافذة -الأفق العالمي والدولي- السياسي الفرنسي الآن دو هامل سيؤكد أن وحدهم الرؤساء الذين لهم – أفق عالمي- من باستطاعتهم ترسيخ ما يطلق عليه -الرئاسية القوية والمبدعة.

في كتاب الجيوسياسية والجيواقتصادية العالمية سيؤكد الباحث جيرود ماكرين أن المغرب منذ سنة 2000 إلى اليوم عمل على نهج استراتيجية تستهدف العودة بقوة إلى الساحة الدولية معتمدا على (استثمار الموقع الجغرافي باعتباره حلقة وصل بين إفريقيا وأوروبا – استقطاب الاستثمارات الأجنبية – تفعيل سياسة الحدود في شقها المطارات والموانئ-تجهيز البنية التحتية – الاعتماد على الدور القوي للمؤسسة الملكية- الاقتصاد المتنوع) .

الرؤساء بأفق عالمي والرؤساء الذين يريدون اللعب مع الكبار يفرض عليهم التوفر على ما يطلق عليه “الخريطة الاستراتيجية العالمية للدولة”، مفهوم “الخريطة الاستراتيجية” أو “خريطة الطريق الاستراتيجية” هو مفهوم قدمه الباحثان في جامعة هارفارد روبير كابلان ودافيد نورتون، حيث أكدا على ضرورة التوفر على تصور يربط بين الاستراتيجية والوسائل (تصور خاص بالمقاولات ولكن تم تعميمه على باقي المجالات) التي تسند الاستراتيجية، وبعد ذلك قياس فعالية هذه الاستراتيجية.

في المفهوم السياسي، فإن الخريطة الاستراتيجية العالمية للدول تبقى مرتبطة بكون الحضور على الساحة الدولية ولعب دور أساسي فيها، يعتمد على القدرة على توفير الوسائل التي تسند هذه الاستراتيجية.

يحسب للعقل الرسمي المغربي في عهد الملك محمد السادس أنه اهتم بشكل أساسي بتصور مشروع للخريطة الاستراتيجية العالمية للمغرب، تعتمد بالأساس على (الثقة في عظمة وقوة المغرب -الموقع الاستراتيجي القوي يعني الدولة القوية – الدولة القوية يعني اللعب في مربع الدول الأقوياء -تعزيز الوحدة الوطنية – جعل الجغرافية الوطنية ورش كبير- تعزيز وسائل القوة التي يتوفر عليها الوطن- تقوية الاقتصاد-تقوية القدرة الدفاعية للبلد-تعزيز امتلاك التكنولوجيا- مؤسسة سياسية استراتيجية قوية (الملكية)).

ميزة التوفر على ما يطلق عليه “الخريطة الاستراتيجية العالمية” أنها تمكنك من التوفر على لوحة القيادة التي تخول لك اللعب بقوة في المربع الدولي. وهنا وجب التذكير أن الرؤساء المبدعين فقط والذين يتوفرون على رؤية واضحة فيما يتعلق بالخريطة الاستراتيجية العالمية لدولهم من ينجحون في تحسين الموقع الدولي لبلدانهم.

وفي هذا السياق سيؤكد التاريخاني الفرنسي مارسيل غوشيه أن وحده الرئيس الفرنسي ديغول من استطاع صنع الخريطة الاستراتيجية العالمية لفرنسا على المستوى الدولي وتفوق في ذلك، (رغم أن السياسي الفرنسي ريجيس دوبري سيؤكد أن الرئيس الفرنسي شارل ديغول يحسب له رغم كونه لا يتوفر إلا على ورقة سفر ضمن الدرجة الثانية، إلا أنه سافر بفرنسا ضمن ركاب الدرجة الأولى معتمدا على حق الفيتو والسلاح النووي وفي غياب القوة الاقتصادية والمالية، وأن باقي الرؤساء الفرنسيين عجزوا وفشلوا في تحقيق الهدف. ونتيجة لهذا الفشل وهذا العجز تراجع الدور الفرنسي على المستوى العالمي).

قدرة ونجاح العقل الرسمي المغربي في بناء مشروع الخريطة الاستراتيجية للمغرب الجديد فتحت للمغرب الطريق نحو تقوية وتعزيز وتحسين دوره ومركزه على المستوى العالمي وفتحت الطريق كذلك نحو تنفيذ الأوراش التي تعزز وتخدم تنزيل استراتيجية الخريطة الاستراتيجية العالمية للمغرب الجديد، وجعلت بالتالي من الجغرافية الوطنية ورشا مفتوحا.

2ـ العقل الرسمي المغربي واستراتيجية الهندسيات الكبرى

العقل الرسمي المغربي يعرف أن دستور 2011 يخول له تمثيل الشعب السيد وليس فقط الشعب المنتج والشعب المستهلك والشعب المدخر، أي الشعب المهتم أكثر بالانتظارات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالزمن الحاضر.

العقل الرسمي المغربي كان يعرف أن تمثيل الشعب السيد المكون من المواطنين (نساء ورجال) والذين يريدون بعيون مفتوحة صياغة مصيرهم الجماعي، يفرض عليه الإبداع في التخطيط للمشاريع والهندسيات الكبرى التي تعزز أفق الوحدة والتماسك من خلال ربط الحاضر بالمستقبل.

العقل الرسمي المغربي في عهد الملك محمد السادس عمل على ترسيخ استراتيجية تعتمد على ما يطلق عليه “المشاريع الكبرى”، مع العلم أن التأطير النظري لاستراتيجية المشاريع الكبرى تؤكد أن هذا الأخير قد اختار الاشتغال من داخل مربع “عقل التصور وعقل التخطيط”، مع العلم أن عقل التصور والتخطيط هو العقل الذي يعطي للشعوب الثقة في المستقبل وفي القادم ويعزز التماسك الوطني ويمنح التفاؤل المرتبط بالزمن القادم، (الصحافي الأمريكي دون كوك سيؤكد أن العقل الأمريكي هو عقل التصور والتخطيط بامتياز-النيوديل نموذجا).

انعقاد المجلس الوزاري الأخير وتخصيص موضوعه لتتبع الاستعدادات المتعلقة بورش مونديال 2030، رغم أن المغرب السياسي مشغول بصعوبات تدبير الزمن المالي (زمن المصادقة على مشروع القانون المالي للسنة المقبلة)، كان رسالة قوية من المؤسسة الملكية تتعلق بالاستمرار في العمل من داخل استراتيجية في الوقت نفسه (الاستراتيجي-اليومي)، ومن داخل هذه الثنائية أولوية الاستراتيجي على اليومي.

العقل الرسمي المغربي من خلال ترسيخ عقل التصور والتخطيط وعقل الهندسيات الكبرى والمشاريع الكبيرة، وترسيخ أولوية الاستراتيجي، كان يؤكد أن المواطن لا يعيش فقط بالخبز وكذلك المجتمعات لا تعيش فقط بالتدبير بل تعيش من خلال الأمل والثقة في المستقبل (وهنا نستحضر ما قاله السوسيولوجي الفرنسي إدغار موران حين أكد أن الحلم والأمل يجب أن يتجاوز الحلول البراغماتية المرتبطة بالتدبير اليومي)؛ مما يفرض الارتقاء بالفعل السياسي إلى المستوى الماكرو، نظرا لقدرته على التجميع وعلى ترسيخ إرادة العيش المشترك وقدرته كذلك على ترسيخ التفاؤل والثقة في المستقبل.

3ـ العقل السياسي المغربي والاعتماد على الطرق التدبيرية الحديثة المعتمدة على العقل والحساب

العقل الرسمي المغربي كان يعي أن القرار المتعلق بجعل “ملف الصحراء النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، والمعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات” يتطلب استعمال مفاتيح تدبيرية جديدة لتنزيل هذه الاستراتيجية على أرض الواقع من خلال تنزيل ثنائية (الوسائل- الأهداف). وفي هذا السياق تم تفعيل مفتاح الحكم الذي يعتمد على استراتيجية استعمال العقل والحساب من خلال “وضع الأوراق الرابحة والأوراق القوية التي يمتلكها المغرب على الطاولة” من أجل تحديد علاقته الدولية.

العقل الرسمي المغربي كان مقتنعا بأن تقوية استراتيجية تنزيل الخريطة الاستراتيجية للمغرب الجديد تتطلب الانتقال من الحكم من داخل مربع “الثقافة التدبيرية التقليدية” إلى مربع “الثقافة التدبيرية الحديثة” من خلال التركيز على العقل والحساب والعمل على تفعيل الحكم من خلال لوحة إيكسيل، مع العلم أن هذا النوع من الحكم يعتمد على العقلنة ويعمل كذلك على التركيز على معطى المصالح ومعطى أوراق القوة ومعطى الأرقام المالية، والتعامل مع كل مشكلة باعتبارها معادلة رياضية تحتاج إلى الحل من خلال الجمع والطرح والفائض الإيجابي (الباحث بريس كورتيي في كتابه “الرئيس الفيلسوف” سيؤكد أن العالم اليوم يشهد وجود أنواع مختلفة من الحكام والرؤساء؛ الرئيس الفيلسوف- الرئيس المدبر- الرئيس صاحب لوحة إيكسيل، الرئيس المحاسب).

العقل الرسمي المغربي كان يعي بأن الاشتغال من داخل مربع التدبير الحديث يعني، بالأساس، التركيز على التدبير؛ من خلال استعمال العقل والحساب ولوحة إيكسيل التي توضح النتائج المحصل عليها.

اعتماد العقل الرسمي المغربي على الحكم من خلال العقل والحساب كان يستهدف التأكيد على أن ميزة الحكم من خلال مفتاح العقل والحساب تتمثل في القدرة على اتخاذ القرارات الصلبة والصائبة والقرارات التي يكون هامش الخطأ فيها ضعيفا، والقرارات البعيدة عن المزاجية والعواطف الشخصية. وفي هذا السياق نستحضر ما سبق أكد عليه الباحث في الشؤون السياسية الفرنسية آلان مينك حين أكد أن “الرجل الذكي والرجل الذي يعتمد على العقل والحساب لا يخطئ في تبني استراتيجية معينة وأن هذه الحقيقة مثبتة في عالم السياسة وعالم الأعمال”.

4ـ العقل السياسي المغربي ورسائل التعديل الحكومي

العقل الرسمي المغربي كان يعي أن تنزيل الخريطة الاستراتيجية للمغرب الجديد تحتاج إلى وسائل قوة تسندها وتعززها من خلال تعزيز النظام المؤسساتي المغربي وتعزيز المحيط وتعزيز وتفعيل المستوى الحكومي، سواء تعلق الأمر بزمن التعيين الحكومي المرتبط بزمن تحديد برنامج الفعل أو بزمن التعديل الحكومي الذي يستهدف إعطاء نفس ورفع سرعة الأداء والفعل الحكومي (من خلال نوعية الأشخاص الحكومية ونوعية عقول الأشخاص الحكومية ونوعية الثقافة التدبيرية التي يحملها الوزراء).

يعرف الباحثون المهتمون بالشأن العام حق المعرفة أن الأزمنة الاستثنائية والأزمنة النوعية في حياة الشعوب لا تحتاج فقط إلى رؤساء استثنائيين ورؤساء نوعيين؛ بل وتحتاج كذلك إلى حكومات استثنائية ووزراء استثنائيين، وزراء قادرين على الانتقال من مربع تدبير الشأن الحزبي إلى مربع تدبير الشأن الحكومي. وهنا كانت الأنظار تتجه إلى الأعطاب الكبيرة التي يعيشها نظام الأحزاب بالمغرب؛ فنظام الأحزاب بالمغرب الذي تأسس في القرن الماضي لم يعد يمثل خزانا للفعالية من حيث نوعية الأطر التي يمكن أن يقدمها للمؤسسات السياسية سواء نخب الرأي والجدال والنقاش أو نخب القرار والأمر بالصرف (البرلمان-الحكومة). ومن ثم، لم يعد يتوفر على ما يطلق عليه الديناصورات السياسية أو السياسيين ذوي الوزن الثقيل، ولم يعد نظام الأحزاب يفرز في الوقت نفسه نخب رجال المعارك الحزبية ونخب رجال الدولة؛ بل صارت الأحزاب حكرا على الرجال المتمرسين في خوض المعارك الحزبية المغلقة.

كل هذا جعل المجال السياسي المغربي مجالا مغلقا ومجالا عقيما ومجالا حكرا على رجال السياسة ذوي الاحترافية السياسية الفائقة، وجعل غالبية نخبه إما نخب البحث عن الريع السياسي أو نخب ثقافة وعقلية القرن الماضي؛ وبالتالي لم يعد المجال السياسي مجالا بإمكانه صنع الحكومات الاستثنائية والحكومات النوعية التي تساهم وتساعد في ترسيخ الأزمنة الاستثنائية والأزمنة النوعية للشعوب.

عقم وتصلب وانغلاق المربع السياسي المغربي على نفسه أفقده ميزة أساسية تتمثل في كونه لم يعد يمثل خزانا للفعالية السياسية. وفي هذا السياق نستحضر ما قاله الكاتب ورجل السياسة الفرنسي غابرييل ميرابو للملك الفرنسي لويس السادس عشر: “عندما نرى أين أوصلت الرؤوس الجيدة فرنسا، فلماذا لا نجرب الاستعانة بالرؤوس الضعيفة؟”.

المحامي والكاتب الفرنسي نيكولاس بافريز سيؤكد هو كذلك عندما نرى أين أوصلت النخب القادمة من الدولة ومن الأحزاب فرنسا، فإننا نطرح السؤال لماذا لا نجرب نخب المجتمع المدني والنخب المنفتحة على المقاولة وعلى العولمة؟ مما سيدفع العقل الرسمي المغربي إلى الانتقال في البحث عن الفعالية من المربع السياسي إلى المربع المدني. هذا الانتقال أطلق عليه التاريخاني الفرنسي مارسيل غوشيه العمل على استيراد الفعالية من المربع المدني إلى المربع السياسي.

هذا الانتقال فتح الطريق للعقل الرسمي المغربي من أجل الاعتماد على نخب المجتمع المدني التي تملك ثقافة العقود والصفقات بدل نخب المجتمع السياسي الذي يحكمه عقل وثقافة القوة العمومية (القانون – المرسوم-القرار).

كما أن استيراد الفعالية من المجتمع المدني إلى المجتمع السياسي كانت رسالة تعبر عن الحاجة الضرورية إلى استيراد نوع من المشروعية التي تميز المجتمع المدني الذي يعتمد مشروعية النتائج والتي تتميز بكونها مشروعية بعدية إلى المجتمع السياسي الذي يتميز بنوع من المشروعية القبلية القادمة من صناديق الاقتراع. وهنا نذكر بالفوز الساحق الذي حققه إيلون ماسك، الذي يتابعه على منصة إكس 204 ملايين – باعتباره عقل الاقتصاد والمقاولة على الرئيس السابق للولايات المتحدة الامريكية ذي الخلفية السياسية التقليدية يتابعه على منصة إكس 130 مليون فقط.

هذا الفوز أثمر انتصارا ساحقا لمرشح إيلون ماسك – دونالد ترامب- على مرشحة باراك أوباما ـ كامالا هاريس- في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة.. وبالتالي، يحسب للعقل الرسمي المغربي أنه يريد أن يدمج المشروعيتين (مع التركيز على مشروعية النتائج) خدمة للمصلحة العليا للوطن والمصلحة العامة. كما أن العقل الرسمي المغربي كان يريد الانتصار للنظرة الاقتصادية (على اعتبار أن فعالية الدول تقاس اليوم بفعالية مؤسساتها الاقتصادية، في ألمانيا يقولون: عندما تعطس شركة فولسفاكن تصاب المانيا بالزكام، وفي المغرب يمكن أن نؤكد اليوم أنه عندما يبدع ويبتكر المكتب الشريف للفوسفاط يزأر المغرب) والثقافة التدبيرية الجديدة القادمة بالأساس من القطاع الخاص ومن التدبير الخاص والتي تنتصر للنخب ذات الخبرة والنخب المحترفة ذات التقنية المتطورة من أجل العمل على وضعها في خدمة الشأن العام.

5ـ الخطاب الملكي ومغاربة الخارج أو محاولة رسم خريطة جغرافية ثقافية جديدة للمغرب

من خلال الإعلان عن تفعيل المؤسسات المرتبطة بإدماج مغاربة الخارج كان العقل الاستراتيجي المغربي يعي أن تعزيز دور المغرب على المستوى الدولي يبقى مرتبطا بشكل وثيق بتعزيز الوسائل التي تسند وتعزز وتقوي هذا الدور وتسمو به.

العقل الاستراتيجي المغربي لم يكن يرى في مغاربة العالم فقط التحويلات والاستثمارات وما يقدمونه لإسناد اقتصاد البلد؛ بل كان يرى فيهم كذلك القاطرة التي يمكن أن تساهم في التحديث، وخصوصا الثقافي. وهنا يتضح أن المؤسسة الملكية كانت تنتظر كذلك أن يلعب مغاربة العالم دورا ثقافيا مميزا كقاطرة.

العقل الرسمي المغربي كان يرى أن مغاربة الخارج يمثلون خزانا مهما للفعالية (التحويلات بالعملة الصعبة- الاستثمار- السياحة – الأفكار والتجارب المتنوعة) قادر على تعزيز استراتيجية المغرب لتنزيل الوطنية المعتدلة والوطنية المنفتحة والوطنية الحداثية من خلال النجاح في صنع عجة بيض حقيقية بين مغاربة الداخل ومغاربة الخارج.

العقل الرسمي المغربي كان يستهدف استعمال الاحتياطات الهائلة للفعالية لدى مغاربة الخارج من أجل خدمة المصالح العليا للوطن، واستعمال هذه الاحتياطات كذلك من أجل ترجيع كفة مغاربة الانفتاح ومغاربة الاعتدال ومغاربة الحداثة.

العقل الرسمي المغربي كان يتوخى مساعدة مغاربة الخارج في ترجيح كفة ما يطلق عليهم “مواطنين من أي مكان”، وهم المواطنون الذين يحملون الهوية المتحركة والهوية المحمولة والذين يتميزون بكونهم يتوحدون وينصهرون من خلال اقتسام القيم القوية، والقيم الحداثية والمرتبطين بالعولمة وبالهوية المتحركة، هؤلاء المواطنون يتميزون بكونهم يقبلون التغيير بسهولة ومنفتحون على الجديد ويعشقون الحرية، ويقبلون الاختلاف والتنوع سواء تعلق الأمر بالعرق أو الجنس أو الأصل أو الدين ويرفضون التمييز يرفضون سجن الوظائف ويثقون في إمكانياتهم وقدرتهم على اقتحام سوق الشغل ويفضلون العقود ولهم ثقة في المستقبل ويعشقون التغيير والجديد.

كما أن العقل الرسمي المغربي كان يتوخى كذلك التأثير الإيجابي لمغاربة الخارج على ما يطلق عليهم “مواطنين من مكان ما”؛ وهم الأشخاص الذين لهم جذور قوية ويملكون هوية ثابتة وهوية متجذرة ومترسخة، تعتمد على الانتماء إلى جغرافية معينة، ومجموعة معينة، وتراب معين وشريحة معينة، ومشاكل معينة، وهم أشخاص مرتبطون أكثر بالماضي وأمجاده ويميلون أكثر إلى الانغلاق وإلى الانعزال؛ وبالتالي لا يقبلون التغيير بسهولة (يعود الفضل للباحث دافيد كودهارت في التفريق بين ما يطلق عليهم “مواطنون من مكان ما” في مواجهة “مواطنون من أي مكان”).

الخطاب الملكي كان يستهدف كذلك تعزيز الهوية الأصلية لدى هؤلاء المغاربة ومنحهم الفرصة للعب دور القاطرة الأساسية في قيادة التحديث والاندماج المغربي في المحيط العالمي.

الخلاصة

يحسب للعقل الرسمي المغربي إيمانه بأن المغرب اليوم في حاجة إلى العمل من داخل مربع التصور والتخطيط من أجل ترسيخ وتنزيل الهندسيات الكبرى والمشاريع الكبرى التي تمكن من ترسيخ الوحدة الوطنية والتفاؤل والثقة في المستقبل. ومن خلال ذلك أراد العقل الرسمي المغربي إرسال رسالة مفادها سنواجه التحديات المستقبلية، من خلال وضعية المؤسسات الواقفة والمؤسسات الفاعلة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق