حروب وصراعات ثقافية..

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

“الصراع الثقافي وهم مصطنع، تتقلده العقول العسكرية والسياسية، وتجعله مركزًا لسيرورة أحلامها وتوجهاتها. ومن تداعيات هذا الوهم أن يستبد الاستعمار الجديد ويتمدد في الهوية والتاريخ، دون أن تكون لديه أية رقابة أخلاقية وقيمية على الإطلاق.”

يستمد خافيير جيراردو مايلي، الرئيس الأرجنتيني الـ58، فكره من الليبرالية اليمينية أو الشعبوية اليمينية. يناصر منهج دعم اقتصاديات عدم التدخل، ويتماشى بشكل خاص مع المبادئ الملكية والفوضوية الرأسمالية التي انتشرت في العشر سنوات الأخيرة في القارة اللاتينية.

جيراردو مايلي، كسياسي واقتصادي ومؤلف أرجنتيني، متخصص في الاقتصاد الكلي، والنمو الاقتصادي، والاقتصاد الجزئي، والرياضيات الاقتصادية. دعا مؤخرًا، خلال اجتماع للفرع الأرجنتيني من مؤتمر “العمل السياسي المحافظ الأمريكي اليميني”، إلى شن حرب ثقافية دولية، وإعادة التنفس بحرية بعد انتخاب ملهمه الأمريكي دونالد ترامب للمرة الثانية على رأس أكبر اقتصاديات العالم.

ولم يخفِ الرئيس الأرجنتيني، الذي يعتبر من أكبر داعمي حرية الاختيار في سياسة المخدرات، والأسلحة، والدعارة، وزواج المثليين، والتفضيل الجنسي، والهوية الجنسية، ومعارضته للإجهاض والقتل الرحيم، إيمانه بضرورة شن حرب ثقافية، مؤكدًا على أهمية محاربة اليسار في الجامعات ووسائل الإعلام والثقافة.

ولأنه يتخذ من منهج ترامب طريقًا ومسارًا لسياساته اليمينية، فقد حرص على استدعاء مساعدي ومستشاري الرئيس الأمريكي المنتخب حديثًا، حيث حضر مؤتمره كل من لارا ترامب، زوجة نجل ترامب والرئيسة المشاركة للحزب الجمهوري، وسانتياغو أباسكال، زعيم حزب “فوكس” الإسباني اليميني، والمعلق الأمريكي اليميني بن شابيرو، بالإضافة إلى مشاركة مستشار ترامب السابق ستيف بانون، والرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، عبر الفيديو.

فما الذي يعنيه خافيير جيراردو مايلي بالحروب الثقافية، التي هي جزء مفصلي في براديغم المعارك السياسية التي تخوضها الولايات المتحدة داخليًا على وجه الخصوص، وتتركز خلافاتها المحورية، وبأشكال متعددة، على التعليم، والعرق، والتنوع، وتعريفات النوع الاجتماعي، ودور الدين في المجتمع؟

إنه على مر ربع قرن، ظهر مصطلح الحرب الثقافية والهوياتية كمنظومة أسئلة متشابكة، في الانتخابات الأمريكية بالتحديد. ظلت القضايا الاجتماعية فيها المنحى الغالب والمهيمن في برامج الرصد المؤسساتي لمجمل مراكز الدراسات الاستراتيجية والسياسية، من قبيل الحق في الإجهاض، وحقوق النوع الاجتماعي، وقوانين الهجرة، التي تستقطب جزءًا من النقاش الثقافي الرئيسي في بنية المجتمع الأمريكي المتحول.

يقول الكاتب جيفري كمب، مدير البرامج الاستراتيجية بمركز «ناشونال إنترست»: “غير أن إحدى عواقب الانقسام المثير للقلق هي الجهود التي يبذلها المتطرفون في كل من تياري اليسار واليمين من أجل قمع نقاش مفتوح للمواضيع المثيرة للجدل في الجامعات والمدارس. فقد مُنع أساتذة محافظون من إلقاء محاضرات حول العرق والنوع والأحداث التاريخية في الجامعات أو طُردوا منها، وذلك بدعوى أنها قد تثير «انزعاج» بعض الطلبة بسبب ما يسمعونه. أما «ثقافة إلغاء» اليسار، فقد عكسها نجاح المحافظين المتزايد في فرض قوانين تحظر مجموعة كاملة من الكتب في المدارس تتناول مواضيع مزعجة من قبيل تاريخ العلاقات بين الأعراق في الولايات المتحدة، والفصل بين الكنيسة والدولة المنصوص عليه في الدستور الأمريكي.”

وهناك اتجاه آخر يتساوق مع منظومة الأخلاق المتقاطعة في نسق التحفيز الاجتماعي، وبقالب سياسي محض، وهو ما رسمته فلسفات الاجتماع السياسي التي تؤوّل حتميات الصراع إلى الحروب الثقافية والأخلاقية بين الأنماط الدولية المتحاربة حضاريًا ووجوديًا. كما عنى الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، الذي افترض عدم وجود أي مشكلة بين الغرب والإسلام، “وإنما المشكلات موجودة فقط مع بعض المتطرفين الإسلاميين”، نافيًا أن يكون الاعتقاد مؤسسًا على عدم فهم للغرب ونظرياته الثقافية والحضارية. وهو بذلك يخالف تمامًا مواطنه صامويل هنتنغتون الذي يقول: “المشكلة المهمة بالنسبة للغرب ليست في الأصولية الإسلامية بل في الإسلام، فهو حضارة مختلفة، شعبها مقتنع بتفوق ثقافته… والمشكلة المهمة بالنسبة للإسلام ليست في المخابرات الأمريكية ولا وزارة الدفاع، وإنما المشكلة هي الغرب ذاته: فالغرب حضارة مختلفة مقتنع شعبها بعالمية ثقافته… وأن عليه التزامًا بنشر هذه الثقافة في العالم.”

ولا حاجة هنا لاستحضار فكرة “صراع الحضارات” لصامويل هنتنغتون، التي أثارت جدلًا فكريًا وسياسيًا على مدى سنوات وعقود، ونتاجها الدراماتيكي على مستوى التحليل الفلسفي والسوسيولوجي، باعتبار عنصرية منظرها وكراهيته للأجانب، ودفاعه عن فكرة “أن الولايات المتحدة هي الأمة الوحيدة ذات الثقافة الأنجلوسكسونية والبروتستانتية.”

وعلى مرمى الأشكال الجديدة لنوع هذا الصراع الثقافي أو الحروب الثقافية، هناك اتجاه يخالف التصورات السالفة، ويضعها في زاوية تاريخانية صرفة، تشتت الانتباه نحو إعادة تدوير طفرات متداولة في قراءتنا للأشكال التاريخية (الدينية) لهذا الصراع. وهو الذي تبنته الأكاديمية البريطانية فرانسيس سوندرز، وخصوصًا ما أشارت إليه في كتابها الجديد “من الذي دفع للزمَّار؟ الحرب الباردة الثقافية”، حيث تذهب إلى أنه بنهاية الحرب الباردة، خرجت الولايات المتحدة منتصرة على السوفيات، وهو ما مكَّن مخابراتها من مراكمة خبرة جيدة في إدارة الملفات الثقافية التي تتصل بتغيير هويات الأمم ضمن سياق الشعارات الأمريكية التي صدّرت للدول الأخرى في فترة الحرب الباردة، مثل: الأمن القومي الأمريكي، والعولمة، والقطب الأوحد، والعالم الجديد. وما إن تفكك الاتحاد السوفياتي، حتى كان على أمريكا توظيف خبرة الحروب الثقافية تلك ضمن مهمة إخضاع بقية العالم -غير الأبيض- لهيمنتها ذات التوجه الغربي الليبرالي.

المشكل أن أدوات الصراع الثقافي أضحت تمارس تكتيكاتها لترويج الصناعات المفاهيمية المتوترة، انطلاقًا من مراكز أبحاث ودراسات استخباراتية أو ممولة من طرف أجهزة عسكرية للبلدان الغربية. وهذه الحقيقة ليست جديدة على أية حال، إذ منذ مرحلة العداء مع الشيوعية انخرط عدد غير قليل من الدارسين في الغرب ضمن برامج دراسات الشرق الأوسط ودراسات المناطق لتصنيع هذه المفاهيم وترويجها وبنائها أفقيًا، ولا سيما بعد أن مُوِّلت في هذه الفترة هذه البرامج -والباحثين فيها- بمنح سخية للغاية مكّنتهم من حفر مناهج معرفية أكثر اتصالًا بعالم الاجتماع والسياسة في العالم العربي والإسلامي، بعكس الاستشراق الكلاسيكي القديم.

ومن ثمَّ ينبع التصريف الجديد للصراع إياه كفارقة في علوم الاجتماع والسياسة، ذات محددات عولمية مترامية الأبعاد والعوالم، تعمل بشكل مستمر على تشكيل حدود جديدة للاستعمار المقنع، تلعب فيه التكنولوجيات العالية أدوارًا خطيرة للغاية، حيث تقوم -من جملة ما ترمي إليه- بتهجين الأمم الضعيفة واستضعافها، وتدجين تاريخها وعمرانها، والاستحواذ على مدخراتها ومقدراتها الثقافية والهوياتية، ومسخ آثارها في الإبداع وبناء الإنسان والاستقلال الذاتي، وإعادة هيكلة كل ذلك وتحويله إلى تابع لقيط مستعبد، مطيع ومبصم على التخدير والاستهداف الاستراتيجي.

فهل نتحرر من قابليتنا لهذا النوع الجديد من الغدر الثقافي والإخماد الآسر لجذوة التحرر وعدم الانسياق نحو القابلية الاستعمارية الجديدة؟

ربما نعود مجددًا لطرق باب المفكر مالك بن نبي، الذي يعتقد أن “الاستعمار لن تكون له القدرة على التصرف في طاقاتنا الاجتماعية والاقتصادية.. لو أننا تحررنا نفسيًا من عُقَدِنا التي تجذبنا نحوه فيسخرنا لمصالحه. فالقضية على هذا الأساس هي أنه كي نتحرر من أثر هذا الاستعمار ينبغي أن نتحرر من سببه وهو القابلية للاستعمار، ولكي ننزعه من الأرض يجب أن ننزعه عن الأذهان أو على الأقل أن ننزعه عن الأذهان بعد نزعه من الأرض.”

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق