أين ذهب كل المثقفين؟ هذا عنوان كتاب الأكاديمي المجري فرانك فوريدي المختص في علم الاجتماع، ويعني بسؤاله الذي يعالجه في الكتاب لماذا اختفى المثقفون وكفوا عن القيام بدورهم؟، هذا بعد أن لاحظ الكاتب أن عاما كاملا قد ينقضي على طلاب الجامعات في فرنسا وبريطانيا وأمريكا من دون أن يقرأ الطالب منهم كتابا واحدا، ويطلق الكاتب على هذه الظاهرة " تهميش الشغف الفكري"، ثم يضيف أن ثمة ادراكا واسع النطاق بين الطلاب بأن " العلوم الانسانية تشكل ترفا غير ضروري"! وتقترن هذه النظرة مع انتشار ما يسميه الكاتب مبدأ "الأداتية "، أي أن دور التعليم والثقافة ينحصر في كونهما أدوات تخدم أغراضا عملية لا أكثر. ويمضي إلى القول إن المجتمعات الحديثة تتجه نحو"التسطيح " الذي تغذيه قوى كبيرة ترى الثقافة بصفتها مجرد وسيلة لتحقيق أهداف عملية، ويمضي إلى القول بأنه تم تحويل المثقف إلى شخص قليل الأهمية، ولا دور له في المجتمع، فتراجعت وانحسرت سلطة المثقف، ولم تعد المعايير الداخلية للفن أو المعرفة هي ما يحدد قيمة العمل، بل استعمال العمل الفكري أو الفني لفائدة أخرى بحيث يخدم التقدم الاقتصادي، وبذلك تنتصر " الأداتية " أي استخدام الثقافة كأداة لتحقيق أهداف أخرى، ومن ثم أصبحت الإنجازات الفكرية والفنية – بعملية تسطيح – مجرد أدوات لخدمة السياسة الاجتماعية، ومن ثم اختفى المثقفون وتراجع دورهم. وفي هذا المضمار يقول الأكاديمي المجري إن المثقفين الفرنسيين الآن– مقارنة بسارتر – يبدون " مجرد تكنوقراطيين هزيلين"، ولم يعد لدينا العديد من الأصوات الفكرية المتميزة. إن النظرة" الأداتية" والتسطيح وتهميش الشغف الفكري يسود في أمريكا وفرنسا وبريطانيا مقابل النظرة إلى الثقافة بصفتها بحثا عن الحقيقة، والنظرة إلى المثقف بصفته مشاركا في قضايا مجتمعه، يتجاوز حدود تخصصه الفني أو الأكاديمي إلى التأثير في المجتمع، ويؤكد الكاتب أن المثقفين يقومون بدورهم عبر تجسيد وجهة نظر جمهور أوسع، والتعبير عن ذلك الجمهور، وأن معنى أن يكون المرء مثقفا هو:" الارتقاء فوق الانشغال الجزئي الذي تفرضه مهنته أو الجنس الفني الذي يعمل فيه نحو المشاركة في القضايا العامة". ولكن الكاتب لا يمضي إلى نهاية التشاؤم إذ يؤكد أنه رغم اختفاء المثقفين الكبار فإن هناك في عالم اليوم:" أعداد كبيرة من الأعمال المثيرة للإعجاب في الفنون والعلوم". وإذا كان فرانك فوريدي قد تساءل لماذا لم يظهر سارتر آخر في الثقافة الفرنسية؟ فإن لنا أن نسأل بدورنا: ولماذا لم يظهر لدينا أساتذة كبار مثل نجيب محفوظ في الرواية، ولويس عوض في النقد، ونعمان عاشور في المسرح؟ ما بالك بطه حسين ، وقاسم أمين؟ بل وحتى في الأغنية لم يظهر عبد الحليم حافظ آخر، ولا عبد الوهاب؟. جدير بالذكر أن الكتاب ترجمة د. نايف الياسين الذي ترجمه بلغة سليمة ومفهومة.
إخلاء مسؤولية إن الموقع يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
0 تعليق