حقًا إن (الحنين إلى الوطن خالد لا يدري أحدٌ أجديدُ هو أم قديمٌ).. أكثر من واحد وخمسين عامًا تنقضي على رحيل صاحب هذه المقولة ابن المنيا عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (١٥ نوفمبر ١٨٨٩- ٢٨ أكتوبر ١٩٧٣م).. مر واحد وخمسون ربيعًا تبدّلتْ فيها البشرية والأفكار والرؤى والعوالم، وما زال السؤال الحائر عن الحنين إلى الوطن يبحث عن إجابة مشبعة.
قدم طه حسين مشروعًا نهضويًا تعليميًا قائمًا على أسس منهجية واعتداد بالعقل الحر والمنجز الإنساني الخلاّق، وخاض معارك طاحنة ضد السلفية والجمود الديني والاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي، وانعكس كل ذلك في فضاءاته السردية التي تناول فيها الحياة وتقلبات المجتمع وصنوف المعذبين في الأرض، كاشفًا عن خطورة تحكم الجهل في مصائر البسطاء، حيث سيقودهم – حتمًا- هذا الجهل إلى الفناء في انتفاء التعليم الصحيح وغيبة الوعي؛ لتنهار المجتمعات وتفقد هويتها وتتقطع أسباب بقائها.
في عام ١٩٥٠م وقبل قيام ثورة العسكر بعامين ارتقى طه حسين إلى منصب وزير المعارف العمومية في حكومة الوفد الأخيرة، ليعلن أن التعليم حق مكفول للجميع كالماء والهواء، وليصبح التعليم إلى نهاية المرحلة الثانوية مجانًا لكل شرائح المصرين، ومن ثم كانت مقولته الشهيرة عن أحقية التعليم للناس فهو (كالماء والهواء، حق لكل مواطن)، وبه يمكن للإنسان أن يفهم ويعي حقائق الأمور، ويدرك ماهية وجوده، فيسهم في الإعلاء من شأن وطنه ومجتمعه والارتقاء به.
كتب طه حسين أشكالًا متنوعة من السرد الأدبي من أبرزها: الأيام (١٩٢٦- ١٩٦٧م)، ودعاء الكروان (١٩٣٤م)، وأديب (١٩٣٥)، وأحلام شهرزاد (١٩٤٣م)، وشجرة البؤس (١٩٤٤م)، والمعذبون في الأرض (١٩٤٩م)، وجنة الشوك (١٩٥٠م)، وجنة الحيوان (١٩٥٠)، والحب الضائع (١٩٥١م)، وقدم سيرة لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم في واحد من أجمل أعماله السردية وهو (على هامش السيرة) في أجزاء ثلاثة، وطرح في كتابه (الفتنة الكبرى) رؤية فكرية تاريخية اجتماعية لأكبر الفتن التي واجهت المجتمع الإسلامي وانتهت بمقتل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وحتى كتبه الأخرى مثل (حديث الأربعاء) وغيرها اتخذت من طرائق السرد وآلياته وسيلة شيقة للتعلم والتذوق والفهم، بحيث يمكننا أن نعد طه حسين باقتدار أحد أهم رواد السرد في الأدب العربي الحديث وأحد رواد التعليم القائم على تبسيط النصوص وكشف جماليات تذوقها.
واليوم بعد مرور أكثر من واحدٍ وخمسين عامًا على رحيل المعلم رائد السرد العربي، نكرر البصر لنرى ماذا بقي لنا من فكر طه حسين ومشروعه النهضوي؛ الذي كانت معطياته الفكرية وجهوده الثقافية أهم لبنات تأسيس هذا المشروع التنويري العربي في مطلع القرن العشرين.
نرجع البصر فلا نرى إلا حسرة وغصة تملأ حلوقنا، لم يعد التعليم كالماء والهواء أحقية لكل مواطن، ولم يعد استكمال كل مراحله والاستمرار به في طاقة كل الناس، فقد أصبحت تكلفة التعليم باهظة جدًا على كثير من الأسر المصرية، وبات التعليم نفسه معضلة مع غياب منظومة صحيحة متكاملة؛ تقود لتحصيل علم عصري نافع تكون نتيجته تخريج أجيال قادرة على الاستيعاب والاستيفاء بمتطلبات سوق العمل.
وحين عجزت المدارس الحكومية عن تحقيق أهدافها التعليمية المعلنة بكفاءة، لجأ أغلب المواطنين للدروس الخصوصية لأبنائهم وبناتهم بديلًا فاستفحلت في بنية المجتمع كالنار في الهشيم، ومع تحول وزارة التربية والتعليم إلى حقلٍ لتجارب بعض الوزراء ومشاريعهم المستقبلية الغامضة كان التردي نتاجًا ملموسًا، أما التعليم الجامعي فيكاد ينحسر ويتقلص مع تراجع دور الدولة في دعمه، وفتح مسارات أخرى بديلة أكثر تكلفة، فانفتح سوق الجامعات الخاصة بلا ضوابط متينة، وبدا أقرب إلى المشاريع الاستثمارية التي هدفها الأساس الربح والتكسب، وانطلقت بوابات الجامعات الأهلية لتستقبل الطلاب بمصاريف كبيرة ترهق كاهل أي أسرة، صحيح أنها أقل تكلفة من الجامعات الخاصة ولكنها تمثل عبئًا كبيرًا على كثير من الأسر المصرية، خصوصًا تلك التي لها أكثر من ابن وابنة ينتظر التحاقهم بالجامعة.
وربما كان أخطر الأمور وأصعبها ما تحدث عنه طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) حيث رسّخ فيه خطة منهجية تقود إلى تطوير التعليم في مصر؛ اتكاء على تكريس اللغة العربية وجعلها اللغة الأساس في العملية التعليمية، لمواجهة التغريب واعوجاج اللسان احتذاء بالغرب واستخدام لغاته وتقنياته بديلًا عن لغة الهوية القومية.
قدم طه حسين ملامح مشروع تنويرٍ عربي أصيل مطلع القرن العشرين، اتكأ فيه على خبرات وتجارب ومعارف حقيقية؛ من أجل النهوض بالتعليم في مجتمعاتنا العربية والارتقاء بالعلوم والأخذ بأسباب النهضة والتحضر القائم على الدمج بين الحاضر والماضي؛ لكننا بعد كل هذه السنوات الطويلة على رحيله نجد تضاؤل هذا المشروع وتراجعه، فتكاد تغيب شمس اللغة العربية وتضيع هويتنا وتنقطع أواصر الصلات بيننا وبين تراثنا الكبير، أمام تحديات العولمة والتغريب، مما يجعلنا نعود لنتساءل: هل بقي من طه حسين شيء؟
*أستاذ البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن بكلية دار العلوم- جامعة المنيا
0 تعليق