"ريغا" بسيدي سليمان.. عقدان من التنقيب لإعادة كتابة تاريخ المغرب القديم

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تنقيبات أثرية مستمرة منذ عشرين سنة بنواحي مدينة سيدي سليمان الغرب تكشف جوانب من تاريخ المغرب القديم خلال “العهد الموري” أو عهد الممالك المورية، وتغذّي التأريخ للوجود الروماني بالمغرب بعد ذلك، تشرف عليها بعثة أثرية مغربية فرنسية، كشفت عن أحدث نتائجها متم شهر نونبر الجاري بجامعة بول فاليري بمونبولييه الفرنسية.

ومن بين ما تطرحه هذه الاكتشافات، بعض حاجات البحث الأركيولوجي المغربي من أجل ثمار أكبر، تكشف التواريخ المطمورة للبلاد، والقارة، وتسهم في فهم العالم.

تاريخ الموقع

في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، قال محمد كبيري علوي، أستاذ باحث بالمعهد الوطني لعلوم الآثار مدير البعثة الأثرية المغربية الفرنسية بريغا، إن هذا “الموقع المهم جدا يقع على بعد 8 كيلومترات شمال مدينة سيدي سليمان الغرب (…)يجري تنقيباته المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، التابع لوزارة الشباب والثقافة والتواصل، والمركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي، وجامعة مونبولييه، والمؤسسة العلمية بمدريد كاسا ديفيلاسكيس”.

وأضاف عالم الآثار، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “البرنامج انطلق في سنة 2004. وقد اخترنا موقع ريغا، وهذا اسمه الحالي، لكننا في القديم لسنا متأكدين من اسمه، لأنه توجد مراكز حضرية في الفترة الرومانية كان لها اسم واليوم لها اسم آخر، من بينها موقع جيلدا الذي ورد في المصادر القديمة، مثل الدليل الأنطونيني الذي يوضح المواقع الرومانية انطلاقا من مدينة طنجة ووليلي ووصولا إلى شالا، ويذكر طريقين ومركزين ومدنا والمسافات الفاصلة بينها، وكم من ميل مثلا بين وليلي وبناصا. وحسب المسافات في الدليل الأنطونيني يمكن أن ينطبق موقع ريغا على جيلدا، وهي كلمة لها علاقة بـجلد القريبة لأكليد بالأمازيغية كما تقول فرضيةُ باحث”.

لكن، أين تتجلى أهمية المطابقة بين الموقعين؟ يجيب الأركيولوجي كبيري علوي: “تشير جيلدا إلى عاصمة المملكة المورية والمغرب القديم ربما قبل الاحتلال الروماني، لهذا كنا نبحث هل موقع ريغا هو جيلدا، وبناء على الفرضية أوليتُ العناية بالموقع، ووضعنا برنامج أبحاث حول موقع ريغا/جيلدا؟”، والعناية كانت أولا بالمستويات المورية ما قبل الرومانية، والبقايا الأثرية للفترة”.

وزاد: “الحصيلة في السنوات العشرين كانت ورشَين كبيرين من مساحة المدينة الممتدة 10 هكتارات، ووجدنا بقايا تعود للفترة المورية في القسم الشرقي من الموقع، وهذه البقايا المورية بالأساس مبنية بالطوب، وهذا من الخصوصيات المهمة لهذا الموقع. ثم في القسم الغربي تَم الاشتغال على بقايا منزل روماني ذي باحة معمّدة، وهي منازل في الفترة الرومانية تعرف بباحات مثل (الباسيون)، وباحة معمّدة، وقد تعرَّف على البيت في بداية القرن العشرين باحثون آخرون مثل لويس شاتلان، وحفرنا نحن أساسا في أماكن لم تطلها حفريات الباحثين القدامى، وهو منزل يشتغل به فريق، فيما يشتغل فريق آخر بآثار منطقة التل بموقع ريغا”.

اكتشافات أثرية

كشف محمد كبيري علوي، مدير البعثة الأثرية بموقع ريغا، أن بـ”موقع التل، وُجد أقدم مستوى استيطان في الموقع يعود للقرن الخامس قبل الميلاد، ببقايا بالطوب وجدران، وأرّخنا لهذا بطرق من بينها الفخار وعمره المدروس معروف، وفوقه طبقة من القرن الثالث قبل الميلاد أرخناها بالفخار والكاربون 14، وهما مستويان مهمان جدا، فهما أقدم من وليلي التي تعود أقدم آثارها إلى القرن الأول قبل الميلاد، وتقع على بعد أزيد من 30 كيلومترا من ريغا، الذي بنيت المدينة الرومانية على أنقاضه”.

في هذا الموقع الموجود بنواحي سيدي سليمان أيضا “بقايا خزفية كثيرة، وبقايا تبين علاقة تجارية بين المدينة وحوض البحر الأبيض المتوسط”، كما وسّع الباحثون “التنقيبات، وفيها مجال وصلنا فيه إلى 240 مترا مربعا من التنقيب، وهي أكبر مساحة للمستويات المورية يتم التنقيب فيها بالمغرب، ويمكن حتى في شمال إفريقيا بالنسبة للمستويات ما قبل الرومانية، وهي مستويات نجدها في مواقع مختلفة في المغرب، لكن اتساع استباراتها محدود، مثل ليكسوس التي نجد فيها مستويات مورية وحتى فينيقية، لكن المستويات المورية بموقع ريغا لا تضيق بنفس الشكل عند التنقيب”.

هذه المستويات المكتشفة “مستويات سكن، ومجالات بعض الأنشطة المرتبطة أساسا بالسكن، وفيها شكل البناء بالطوب ونتعرف فيه على المجالات على شكل قاعات مستطيلة، ونجد أرضية المنزل بالتراب المدكوك، وفوقها علامات مثل موقد الطبخ”.

فوق هذا المستوى وجد الباحثون، وفق رئيس البعثة، “مستويات البناء بالحجر التي تعود إلى الفترة الرومانية، حيث عندما دخلوا إلى المغرب، عادت الحياة من جديد إلى المدينة وبدأ البناء بالحجر لا بالطوب”.

وهكذا، في “كل مرحلة على حدة نحاول معرفة نوعية السكن وكم من بيت موجود فيه، ونوعية المجال والغرفة، ومساحاتها، والمداخل، ونحاول أن نرى ما التصميم العام للفترة، ووصلنا إلى القرن الثاني قبل الميلاد، في الستراتيغرافيا بعد التعرف على القرن الأول قبل الميلاد”.

أثر الأبحاث

هذه النتائج تنشر في أبحاث، وتقدم في مؤتمرات من بينها المؤتمر الأخير بمونبولييه الفرنسية، حيث يعرض التصميم العام واللقى الأثرية والمسكوكات، في مجال مهم جدا؛ “لأن مستويات القرن الثالث قبل الميلاد غير معروفة بشكل كبير، باستثناء ليكسوس، وموقع ريغا من المواقع المهمة جدا في هذا الأمر”.

هذا الموقع به، وفق مدير بعثته الأثرية كبيري علوي، “باحثون مختصون يدرسون النباتات في كل طبقة، علماء نباتات أثرية، يأخذون عشرة سطول من تراب الطبقة ويفحصونها في آلة خاصة ليعرفوا بقايا نباتات الفترة، ويوجد باحثون آخرون يدرسون بقايا عظام وحيش المنطقة، وفي مستويات القرن الأول وجدنا بقايا نوعِ فئران غير معروفة، ومهمة جدا، لأنها لم تكن مثبتة في طبقات مؤرخة جيدا”.

ومن الاكتشافات المهمة أيضا، “في المنزل الروماني، اكتشاف كبير منذ 4 سنوات أو خمس، لأول آثار معصرة للخمور لها نفس مقومات معاصر الزيتون بموقع وليلي، ونحن متأكدون من استعمالها للخمور، لأنه توجد معصرتان بجانب بعضهما، في القسم الشمالي من المنزل، فوقهما آثار هدم، وآثار حريق مهول أصاب المنزل في القرن الثالث الميلادي، وآثار الدمار شملت مقدار العنب الذي كان سيعصر، ووجدناه، بعد فحوصات بالمختبر، لزيادة التأكد، لأنواع من الجرار يمر عبرها النبيذ بعد العصر، وجدناها في عين المكان، تأكدنا من أن بترابها آثار نبيذ أحمر”.

ووضّح عالم الآثار أن أهمية هذا تبرز انطلاقا من أن “بوليلي أكثر من ستين معصرة، واعتقد الباحثون (سابقا) أنها كلها لعصر الزيت، والآن توضع علامة استفهام حول هل استُعمل بعضها لعصر الخمور؟”.

ومن الاكتشافات التي لم تعرض بعد، اكتشافٌ في المنزل الروماني بـ”قبو، تحت طبقة مهدومة مع آثار حريق، حيث عثر تحتها على تلبيسة صندوق من معدن برونزي، عليها أشكال منحوتات هي واجهة الصندوق، تُمثّل آلهة للتزيين لصندوق واجهته أكثر من ثمانين سنتمترا، وقريبا سينظم معرض لها”.

وزاد المصرّح: “من الأمور المهمة في المنزل الروماني لريغا، أنه قد عُثر على مكونات كلها للمنزل، انطلاقا من الحفريات القديمة والجديدة (…) فيها طبقات ومستويات تعلو هذا المنزل بعد الجلاء عليه، ولم يبق سكن بعد القرن الثالث الميلادي”، وبعد ذلك “مستويات تعود للفترة الرومانية المتأخرة بين القرنين الرابع والخامس الميلادي، وفوق البقايا الأثرية بقايا تعود على الأكثر إلى القرن التاسع الميلادي، أي العهود الأولى للفترة الإسلامية الإدريسية، ثم بقايا أخرى فيها حفر وأفران لصناعة الفخار ترجع إلى القرن الرابع عشر أي الفترة المرينية”.

ما يعني أن بهذا الموقع “كل المستويات بعد الفترة الرومانية”؛ مما يمكّن من “استكمال الصورة، عبر البقايا الأثرية، حول موقع عرف استيطانا في فترات مختلفة”.

حاجة تكثيف الأبحاث

جوابا على سؤال هسبريس حول إمكان إثبات فرضيات التخلي عن إعمار مواقع مدن في العهد الروماني للمغرب، ذكر عالم الآثار محمد كبيري علوي أنه رغم توفر تفسيرات تاريخية موثقة، إلا أنه لإسناد الفرضيات ينبغي أن تتوسع الحفريات في مجال أوسع؛ “وبالنسبة لمدينة ريغا فهي على امتداد عشرة هكتارات، ورغم البدء في سنة 2004، إلا أن معدل التنقيبات هو شهر كل سنة، أي أننا أجرينا 20 شهرا من الحفريات تقريبا”، مع تأكيده في الآن نفسه على “شكر المؤسسات والسلطات التي تثق في الفريق وتسانده وتساعده”.

وقال: “في ميدان الآثار والتراث مما نطرحه، أنه إذا أردنا أبحاثا كثيرة في المواقع، علينا القيام بتنقيبات مكثفة أيضا، ففي فترة الحماية كانت أبحاث وتنقيبات على طيلة السنة فيما عدا فصل الشتاء وفترات الأحوال الجوية الصعبة بمواقع مثل وليلي”، أما اليوم فـ”الأبحاث ليست بالوتيرة الكافية لفتح المواقع للزوار”.

وذكر عالم الآثار أن طموح الفريق هو “توسيع التنقيب ليشمل مراكز أخرى، للتعرف على شكل أو أشكال الشبكة الحضرية للمدينة في الفترة الرومانية”، وهذا “من بين الأبحاث اللصيقة بالتنقيبات المرتبطة بالمسح الجيوفيزيائي، مع فريق ألماني لرؤية ما البنيات الأثرية التي يمكننا التعرف عليها قبل التنقيبات”.

وتابع: “في إطار برنامج بحث جديد، نطمح للتعرف بشكل أفضل على المدينة ومكوناتها، وأن نستكمل الأبحاث على المستويات المورية المهمة، لأن هناك استبارا أوصلنا إلى القرن الخامس قبل الميلاد، والأبحاث موسعة وصلت إلى القرن الثاني وستبقى مستمرة حتى الوصول إلى القرن الخامس، علما أن هذا من بين القرون غير المعروفة بشكل كبير، وبقاياه من المغرب القديم في العهد الموري قبل وصول الرومان، ولا معلومات لنا حول البقايا”.

ثم ختم رئيس البعثة الأثرية تصريحه لهسبريس بالقول: “يمكن كتابة تاريخ هذه المدينة المورية انطلاقا مما نتوصل إليه من نتائج في هذه الحفريات، مع مقارنات مع مراكز أخرى بالمغرب وحوض البحر الأبيض المتوسط لمعرفة العلاقات التجارية، ونوع الأنشطة، والسكن، والمجال القريب والنباتات والحيوانات التي عمّرت المنطقة”، وعبرها يمكن الإسهام في كتابة تاريخ المغرب القديم بالانطلاق من “اللقى الأثرية، والبنيات الأثرية، ومجموعة من المعطيات المهمة التي تعتمد بالأساس على المصدر الأركيولوجي”.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق