على هامش الكشف عن عدد من التعديلات المقترحة في إطار مراجعة مدونة الأسرة المغربية، أكد نشطاء ومهتمون بالثقافة الأمازيغية أن جزءا مهما من هذه المقترحات تنهل فلسفته من تراكمات المنظومة الاجتماعية والأسرية عند “إيمازيغن” التي دعوا إلى أخذها بعين الاعتبار في إقرار أي تعديلات، معتبرين أن دمج الأعراف والقيم الأمازيغية في التشريع الأسري المغربي سيسهم في تكريس مبادئ العدالة والمساواة، خاصة ما يتعلق بحقوق المرأة وتنظيم العلاقات بين الزوجين.
وشدد النشطاء الذين تحدثوا لجريدة هسبريس الإلكترونية في هذا الصدد على أن المرجعية الأمازيغية التي تؤطر العلاقة بين الرجل والمرأة داخل مؤسسة الزواج، تضمن المساواة بين الزوجين وتصون حقوق وكرامة المرأة وتقدس دورها داخل الأسرة والمجتمع، معتبرين أن إدراج الأعراف الأمازيغية ضمن مسار إصلاح الأسرة في إطار من التكامل بين الحداثة والتراث الثقافي، سيساهم في معالجة بعض التحديات التي تظل قائمة في ظل النظام القانوني الحالي، وسيعزز من تماسك الأسرة المغربية وتقوية مناعتها في وجه الهزات الاجتماعية.
أعراف وتقديس
قال عبد الله بوشطارت، باحث في الثقافة الأمازيغية، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية: “أغلب مقترحات تعديل مدونة الأسرة في المغرب تتناغم مع روح وفلسفة المرجعية الأمازيغية التي تؤطرها مجموعة من القيم والأعراف التي هي قوانين وضعية، وكذا الأنظمة التي ترسخت في المجتمع الأمازيغي عبر تطوره داخل بنية التاريخ”.
وأضاف بوشطارت أن “المرجعية الأمازيغية التي تؤطر الأسرة قديمًا لم تكن جامدة وإنما تتطور وتتقدم مع التحولات المجتمعية والاقتصادية الطارئة، وبالتالي فحضور هذا النفس الإصلاحي ومبدأ التحيين والاجتهاد فيما يخص تدبير قضايا الأسرة حاضر في المرجعية الأمازيغية، وتؤكده الكثير من النوازل الفقهية والأعراف والأنظمة التي تهدف إلى حماية حقوق الزوجين، وخاصة المرأة أثناء العلاقة الزوجية وبعدها، وأيضًا العدالة والمساواة في الحقوق”.
وزاد شارحا: “هنا لا بد أن نذكر نظام تامزالت، المعروف بالكد والسعاية، المعمول به في منطقة سوس بالخصوص، الذي تم إدراجه في مدونة الأسرة الحالية في المادة 49، ويتعلق بحق الزوجة في الأموال والثروة المكتسبة أثناء مدة العلاقة الزوجية، وهو الذي أثار نقاشًا في التعديلات الحالية للمدونة، حيث تم اعتبار ما تقوم به الزوجة داخل البيت بمثابة عمل يساهم في خلق الثروة”.
وأوضح أن “مقترح التعديل هذا كان معمولًا به منذ قرون في سوس حيث كانت الزوجة بعد انفصالها عن الزوج تتمتع بحق نصف الأموال والثروة التي تم اكتسابها خلال العلاقة الزوجية، لأن المرأة كانت تشتغل وتعمل وتكد داخل البيت وخارجه في الزراعة والرعي وغيرها، بالرغم من أن الزوج كان يتكلف بالإنفاق على الأسرة”، مبرزًا أن “هذا العرف كان معمولًا به في المجتمع الأمازيغي وسايره الفقهاء وعملوا به مادام أنه لا يتعارض مع روح الشريعة، كما أن له وظيفة مهمة داخل المجتمع في صون حقوق المرأة، ويساهم في الحد من تعدد الزوجات، لأن الزوج يخاف من اقتسام الثروة والأموال المكتسبة مع الزوجة الأولى في حالة طلاقه منها، وبالتالي يكون حريصًا جدًا على تفادي الطلاق وتعدد الزوجات”.
وشدّد على أن “واقع الأسرة وأعرافها وقوانينها لدى مجتمع الرحل الأمازيغي، ولا سيما لدى مجتمع الطوارق، لا يزال يحتكم إلى الأعراف والقوانين الوضعية الأمازيغية حيث تكون المرأة والزوجة عماد الأسرة وتكون مقدسة. ففي حالة الطلاق، فإن الزوج هو الذي يغادر بيت الزوجية، أي الخيمة التي تبقى في ملكية الزوجة وأبنائها، ويكون الزوج مجبرًا على البحث والعمل على بناء خيمة أخرى. لذلك نجد حالة الطلاق نادرة جدًا في مجتمع الرحل الأمازيغي”.
وأكد الباحث ذاته ضرورة وضع التعديلات المقترحة لإصلاح مدونة الأسرة في “ميزان ما راكمه المجتمع المغربي عبر التاريخ من أنظمة وأعراف أمازيغية متوارثة، وقد كيّفها المجتمع مع الشريعة وزكاها الفقهاء والعلماء في نوازل فقهية كثيرة”.
وسجّل أن “هذه القوانين والأنظمة ترتكز على فلسفة المساواة في الحقوق والعدالة وتعاضد الأسرة الأمازيغية المغربية وتماسكها، وأيضًا كانت تحتكم إلى التجديد والتحيين والتطور مع مستجدات العصر، إذ إن ثقافة حقوق المرأة قبل وأثناء وبعد زواجها متجذرة ومنغرسة في المجتمع المغربي ولا نحتاج إلى استيرادها والبحث عنها في الخارج. وأيضًا أفكار الحداثة والاحتكام إلى العقل والمنطق ومسايرة العصر هي الأخرى موجودة في صلب المجتمع المغربي، وتبلورت داخل بنيات تاريخه العريق وتطورت مع تحولاته النسقية الاجتماعية والثقافية”.
القوانين والمساواة
قال أحمد أرحموش، محام ناشط أمازيغي، إن “أي قراءة موضوعية لمجمل القوانين الوضعية الأمازيغية في وسط النصف الجنوبي للمغرب، ما بين القرنين 11 و19، تكشف بشكل واضح كيف عالج القانون الوضعي الأمازيغي بالمغرب قضايا اقتسام الثروة والإرث والانفصال”، مضيفا: “على مستوى الأموال المكتسبة أثناء فترة الزواج، فبالنسبة للمرأة المطلقة، أو المتوفى زوجها، نجد أنفسنا أمام وضع قانوني متميز متطابق نسبياً مع ما جاء في الفقرة الثانية من المادة 15 لاتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة”.
وأوضح أرحموش، في تصريح لهسبريس، أن “القوانين الوضعية الأمازيغية في مجمل ربوع جنوب المغرب عملت في اتجاه إقرار حق المرأة في استيفاء نصيبها من الأموال المكتسبة خلال مدة الزواج، وهو ما يسمى بالأمازيغية [تمازالت] أي الحق في [الكد والسعاية]. ومن ذلك، فإنه يحكم للمرأة المطلقة بنصيب قد يصل إلى أكثر من 50 في المائة مما تمت مراكمته من رأسمال خلال مدة الزواج، وهو ما اهتدى إليه نسبياً ولو بشكل جزئي المشرع المغربي من خلال المادة 49 لمدونة الأسرة الحالية”.
وتابع بأن “ما قررته الجماعة في المجتمعات الأمازيغية المعنية في موضوع تامازالت تجاوز ما هو مقرر بالمادة 49 من مدونة الأسرة، حيث يخول نظام تامازالت للمرأة التي يتوفى زوجها الحق في استحقاق النصيب نفسه بعد الوفاة، وذلك بغض النظر عمن سينوب عنها عند تصفية أو تقسيم التركة، وطبعا في حدود المنقولات التي خلفها إذا وجدت”، مضيفاً أن “ذلك لا يشمل العقار سواء بعينه أو بطبيعته باعتباره مملوكا للجماعة وليس ملكاً خاصاً أو مملوكا للأفراد، حيث إن العقار بالمدونات القانونية الأمازيغية لا يورث ولا يقسم كما لا يباع ولا يرهن”.
وعلى مستوى الإرث، قال المحامي الناشط الأمازيغي ذاته إن “الملكية العقارية عند الأمازيغ هي ملكية جماعية وليست فردية. ولذلك، فإن منع بعض القوانين المرأة من الإرث في العقار تحكمه فلسفة خاصة، تمنع الجميع من الإرث ولا يقتصر الأمر هنا على المرأة وحدها، حيث يروم هذا المنع ترجيح المصلحة العامة”، معتبراً أن “هذه الفلسفة تقوم أيضاً على فكرة أن استحقاق المرأة مثلها مثل الرجل للإرث في هذا المجال، سيتسبب في تسرب الأجانب إلى القبيلة لمشاركتهم الحق في التملك، وفي نظر المجتمعات الأمازيغية، فإن ذلك من شأنه أن يهدد تماسك الجماعة أو القبيلة، ويفتت الروابط الاجتماعية التي تجمع بين جميع ساكنة القبيلة أو الجماعة”.
وفي حديثه عن الشق المتعلق بأهلية المرأة سواء في الزواج أو في تولي سلطة الإشراف على الأسرة، أوضح المتحدث أن “بعض القوانين الوضعية لزمور وزيان تناولت هذا الموضوع، إذ خولت للبنت البالغة سن الرشد تزويج نفسها بنفسها بدون ولي أو إذن، بل يمكنها أن ترتبط عرفياً وعلانية وبدون عقد مع من تراه ملائماً لها في أفق التزوج به لاحقاً”، مسجلاً على صعيد آخر أن “المرأة لها أيضاً الحق في المطالبة تلقائياً بالانفصال أو بالتطليق بمجرد وجود رغبة لديها في ذلك، ومن حقها أيضاً إلغاء الزواج الذي يتجرأ أبوها أو أخوها على إنجازه بدون علمها، كما يمكنها أيضاً المطالبة بالتطليق إما بسبب الإهمال أو العنف أو الضرب”.
وخلص أرحموش إلى أن “الاتجاه المكرس للمساواة على المستوى الجنائي والعقوبات المالية المقررة في الجرائم الموصوفة، يمكن ملامسته في المدونات والقوانين الأمازيغية، إذ لا وجود للتمييز بين الرجل والمرأة في مجال العقوبات عندما يكون أحدهما متهماً بارتكاب فعل ما، ويمكن الاستدلال في هذا السياق بما جاء بالمادة 23 من أزرف قادوسا، وهي جماعة توجد بجانب نهر كير بتازوكارت”.
القيم والاختيارات
قال محمد بندير، باحث في التراث الأمازيغي، إن “هناك مجموعة من الأعراف والقيم التي تؤطر منظومة الأسرة عند الأمازيغ. في سوس، مثلاً، نجد أن رابطة الزواج تعتبر في نظر المجتمع، أولاً وقبل كل شيء، بمثابة ما يُعرف بـأكدال الذي لا يجب خرق مقتضياته. وكباقي المجالات التي يسري عليها هذا العرف، نجد أن تعامل الساكنة مع مقتضيات رابطة الزواج يتسم بالتلقائية والعفوية”.
وأضاف: “على مستوى القيم أيضاً، وانطلاقاً من استقراء عينة كبيرة من عقود الزواج والانفصال وتقسيم التركات، يتأكد أن المرأة بقدر ما تضعها الممارسة الاجتماعية للأعراف في مرتبة أعلى من أن تُقدَّر بقيمة مادية ومالية، بقدر ما تحصن مصالحها وتحميها من أي تعسف محتمل”.
وزاد شارحًا: “لقد شكل [أمرواس] الركيزة الأساسية لعقد كل زواج، وهو لا يعني الصداق بالمفهوم الشرعي كما يعتقد العديد من الناس، إذ يتكون إلى جانب الصداق، حسب عقود الزواج القديمة، من مكونات أخرى يقرها العرف ويزكيها الاجتهاد الفقهي لفقهاء المجتمع”، مضيفاً أن “أمرواس هذا، الذي يقابله باللغة العربية [الدين]، يتكون من رصيد للمرأة تملأ به ذمة الزوج بمجرد العقد عليها، وعادة ما يكون دينًا ثقيلاً ماديًا، ليجتمعا معًا على إغلاق كل أبواب الاستهتار بالمسؤولية الزوجية (للزوج والزوجة معًا) والحط من قيمة المرأة أو ظلمها”.
وأكد محمد بندير أن “في هذه العناصر من المرجعية والقيم الأمازيغية يمكن أن نجد لها امتدادًا في بعض مقترحات تعديل مدونة الأسرة التي صارت تخيف شريحة كبيرة من المجتمع المغربي اليوم، خصوصاً المشبعة منه بقيم دخيلة غير قيم أجداده، أو المتنكرة لها عن قصد أو غير قصد. فالمسكن الذي يخشى عدد من الرجال أن يؤول إلى البنات بعد وفاة أزواج لم يخلفن منهم ذكوراً، هو في عرف الزواج في سوس، مثلاً، أو على الأقل في بعض قبائله، يقضي بأن يُكتب باسم الزوجة عند العقد عليها، تطبيقاً لما يسمى عرف [السِّكون]، وهو تحويل ملكية [بيت وعريش للخدمة]، أي غرفة ومطبخ من منزل الزوج أو منزل أبويه إلى ملكية الزوجة، مع تحديد دقيق لحدود العقار الذي ينتميان إليه”.
وتابع بأن “موضوع تدبير أموال الزوجين المكتسبة خلال فترة قيام العلاقة الزوجية، ولذي يخيف تدبيره بالشكل المقترح لتعديل المدونة بعض الآباء المغاربة أيضًا، كان إلى حدود صدور مدونة الأحوال الشخصية، وربما حتى بعد ذلك بقليل، يقوم على عرف تامازالت، القاضي باقتسام الممتلكات المشتركة بين الزوجين في حالة الطلاق، وبإخراج نصيب الزوجة منها من تركة الزوج عند وفاته وعدم خضوعه لأحكام المواريث”.
وخلص الباحث في التراث الأمازيغي إلى أنه “منذ التعديل الأخير لمدونة الأحوال الشخصية، التي حلت محلها مدونة الأسرة في نسختها الأولى، لاحظنا أن هناك نوعًا من الوعي بضرورة العودة إلى الأعراف والقيم الأمازيغية الأصيلة في تدبير شؤون الزواج والأسرة القانونية. وفي مقترحات التعديلات الحالية كذلك، هناك بعض التقدم في النهل منها”، مشددًا على “ضرورة الأخذ بالصالح لمقتضيات العصر من التراث الأمازيغي ذي الصلة، وتمتع فقهاء المؤسسات الرسمية وغير الرسمية بحكمة وحنكة أجدادنا من الفقهاء الأمازيغ الذين استطاعوا، بمعية مدبري الشأن العام من [إنفلاس] القبائل، أن يكيفوا مقتضيات الشرع مع قيم المجتمع وأعرافه”.
0 تعليق