إن الوعي بالقيمتين: الإبستيمولوجية والأونطولوجية للحرف دفعت الصوفية إلى أن يروا أن الوجود سِفْرٌ ضخمٌ يمارس فيه الله كتابته الوجودية، وأن العلاقة بين الكاتب والمكتوب ذات منحىً دلالي خفي أشبه بعلاقة الحرف بالمعنى. فالموجودات كلمات الله التي أخرجها من صمت العدم إلى صوت الوجود، كانت مباطنة لِنَفَسِهِ الرحماني فأخرجها إلى الوجود الحسي العِيَّانِي، وكذلك الحروف والكلمات فهي موجودات أخرجها النَّفَسُ الإنساني من المباطنة إلى الظهور.
وبهذا التوازي الدلالي بين الوجود والحروف دلالة وشكلا وكتابة قرأ الصوفية العالـمَ السري للحروف المُقَطَّعَةِ في أوائل بعض السور القرآنية، وعددها أربعة عشر حرفا رامزا؛ هي على الترتيب ـ بعد إسقاط المُكَرَّرِ منها: (ألم، ألمص، ألر، ألمر، كهيعص، طه، طسم، طس، يس، ص، حم، عسق، ق، ن)، وتجمعها العبارة التالية: (نصٌّ حكيمٌ قاطعٌ له سرٌّ). وقد كشفت لهم هذه القراءة عن معنى وجودي هام، يتمثَّلُ في أن البداية بالألف ما هي إلا رمزٌ بأن الذات الإلهي المحض هي البداية، وأن النهايةَ بالنون ما هي إلا رمز بأن الوجود بشطريه: (الحسي/الروحي، الظاهر/الباطن، الحاضر/الغائب) هو النهاية. فبالألف قامت النون، وأُخرجت من البطون إلى الظهور، من العدم إلى الوجود، من الغياب إلى الحضور، ولا انفكاك للنهاية عن البداية، فهي خاضعة لحضرة الجبروت وحضرة الصفات. فالألفُ بما هي موازية للذات الإلهية جلَّتْ أن توصف بالحركة والسكون، لانفصالها في الأَزَلِ، ولانتهاء الغايات إليها، فهي باطنُ الباطن، والعلاقة بينها وبين الهمزة علاقة شكلٍ بمنطوق، إنها شبيهة بعلاقة الذات الإلهية بتجلياتها الإبداعية. وهكذا تكون الألفُ منزهة عن الحركات، لأنها رمز لكمال الذات المحض، لا يصح فيها اتصالُ شيء، ولكن حينما يتم النطق بالهمزة فإن ذلك يكون باسم الألف، وباسم صفة من صفاته التي تفتتح الوجود.
أما النون فهو دائرةٌ وجودية تشمل الملك والملكوت، منشطرة إلى عالم تركيبي ظاهر، وعالم روحاني محجوب خفي. والنقطة هي البرزخ الفاصل بين هذين العالمين، والدالُّ عليهما، ومادام عالم الروح محجوبا فإن عالم التركيب سيبقى ناقصا، ومن ثمة فلا كمال للوجود، فهو ناقص، ونقصانه يوازيه نقصان النصف الآخر من النون. وتبقى الألف هي الكمال الموازي لكمال الذات المحض.
إن هذه الحروف تختزل الكون، وترمز إليه، وتتوازى معه وجوديا ومعرفيا، ف (ألم)مثلا تتضمن:
أولا: الألف الذي هو حرف قائم؛ منه نشأت الحروف، ومنه تنشأ، وفيه تدخل سائر معانيها، والذي يُنَاظِر العقلَ والعلم والعرش واللوح.
ثانيا: اللام الذي هو حرف واصلٌ الأدنى والأعلَى، وهو يُنَاظِرُ الكرسي واللوح والنفس.
ثالثا: الميم الذي هو حرف دال على التمام، وهو يناظر الجسم. فالألف هو مبنى الجمع والإجمال، عِلْمُهُ في النقطة، وَعِلْمُ النقطة في المعرفة الأصلية، والمعرفة الأصلية في علم المشيئة، وعلم المشيئة في غَيْبِ الهواء، وعلم غيب الهواء في انتفاء التشبيه.
وهكذا يَرِدُ الألفُ عندهم في سياقات شتى، تبدأ من الخارج لتتوغل في الداخل، وتتوطَّن في خفاياه، وبذلك يصبح متحولا ومتساوقا مع الوجود شكلا ونصا، وبالتالي تتحول الحروفُ والعالمُ إلى شبكات من الصور تتنافذُ فيها الرموز بدلالاتها اللانهائية، ويذوب العارفُ فيها نظرا وعشقًا وكأنها مرآة تقتنصُ ما لا نهايةَ له. وقد أدرك ابن عربي هذا فخصَّصَ للحروف المقطعة هذه وأسرارها عدةَ قصائدَ في ديوانه الكبير؛ منها قصيدة تُنَيِّفُ عن عشرين بيتا، يقول فيها:
حُرُوفُ أَوَائِلِ اُلسُّوَرِ
يُبَيِّنُــهَا تَبَايُنُهَــا
إِنْ أَخْفَاهَا تَمَاثُـلُهَا
لَتُبْدِيـهَا مَسَاكِنُـهَا
فَـمَا أَخْفَاهُ مُضْمَرُهَا
لَقَدْ أَبْدَاهُ كَائِـنُـهَا
فالكون بكل مُكوِّناته هو حروفُ أوائل السور، والإنسانُ فيه هو أَعْلَى هذه الحروف، بمعنى أن الكون إنسانٌ كبير، والإنسانُ كونٌ صغيرٌ يضمُّ ذلك الكون الكبير، وإن كان لا يُدرك ذلك، كما قيل:
أَتَزْعُمُ أَنَّكَ جِرْمٌ صَـغِيرٌ
وفِيكَ اُنْطَوَى اُلْعَالَمُ اُلْأَكْبَرُ؟!
ولا يتأتَّى إدراكُ أسرار هذه الحروف للصوفي إلا حينما يكون في نَفْسِهِ هَيُولَى لِصُور المعتقدات كلها، لكي يدرك إشارات الله. وهذا الإدراك يتم بآليتين: الرؤيا التي تأتي بلا إرادة، والخيال الذي هو إرادة طالعة من الباطن، وذلك لأن الحرف رمزٌ يدخل في الاسم، والاسمُ يُوجِد الوجود. يقول ابن عربي:
إِنَّ اُلْوُجُودَ لَحَـرْفٌ أَنْـتَ مَـعْنَاهُ
وَلَيْـسَ لِي أَمَلٌ فِي اُلْكَـوْنِ إِلَّاهُ
اُلْحَرْفُ مَعْنًى، وَمَعْنَى اُلْحَرْفِ سَاكِنُهُ
ومَا تُشَاهِدُ عَـيْنٌ غَيْرَ مَـعْنَـاهُ
0 تعليق